لا يتسنّى لنا دوما زيارة ورشة رسّام، هذا العالم الخاصّ والسرّي جدّا، والذي يشبه دخوله التجوّل في روح أحدهم أو في شرايين قلبه. كما ليس باستطاعتنا السّير بين الغيوم، لا التي نراها في السماء، ولا التي نرسمها بألوان مختلفة على جدران غرفنا. لكن، ماذا لو تسنّت لنا فرصة القيام بكلّ ذلك؟
لم تترك نجاة الذهبي مكانا للجدران في ورشتها الصّغيرة، فما إن تدخلها إلا تمتلكك رغبة في اختراق النافذة التي تترك مجالا لأشعّة الشمس، ربّما تنعكس معها على الأجساد السابحة في الألوان، تتخّذ أحد وجوهها لتلبس أنت أيضا تلك النظرات التائهة أحيانا والراغبة والغاضبة دوما. تتملّكك ربّما رغبة في أن تكون أنثى أو تصبح كذلك.
الجسد الأنثويّ، ما وراءه وما بعده..
"الرّسم، هو شكل آخر لكتابة اليوميات" هكذا عبّر فان غوغ وهو الذي إذا قرأنا رسائله اللّامعدودة، وجدنا روابط مباشرة بين لوحاته وما يرويه لأخيه تيو. وهكذا انطلقنا في فهم أعمال نجاة الذهبي حين أثارنا الفضول حول شخصيتها الرّافضة المختفية، ليس فقط خلف جرأة لوحاتها، إنما خلف وجهها الخجول أيضا وصوتها الخافت.
انطلقت القصّة منذ الطفولة مع "اللّا"، هذا الردّ المعتاد والملقى على أسئلة الفتيات وأفكارهنّ بسبب وبدونه. في مزّونة، حيث ولدت نجاة وكبرت، تحمل الفتاة ثقل الرّفض الدّائم وتمضي به نحو حياتها قبلت ذلك أو لم تفعل. كان تعرّض نجاة لمثل هذا العنف أقلّ كثافة بكثير من بقيّة أهل قريتها. بساطة والديها وحبّهم للحياة، جعل منها شخصا، لا يردّ الفعل، لكنّه يفكّر وينقد ما حوله كما نمّى فيها حساسيّة مفرطة للألوان وللجمال. هكذا اتّخذت طريق العاصمة تونس بعد الحصول على شهادة الباكالوريا، بكلّ قيود المجتمع التي راكمتها سنوات، وبخطوة أولى في تحقيق حلم الطفولة، أن تدرس الفنون الجميلة بالمعهد الذي تدرّس به الآن.
"اشتغلت لفترة طويلة على الجسد الأنثويّ"، الجسد الذي تخرج به من ملامحه المعتادة والرسميّة، وتضعه محلّ تشويه جماليّ، جذّاب نحو التأمّل والتساؤل. "ترى في اغلب الأحيان وجهي، وترى عدم تناسق... الأجساد التي أرسمها هي نماذج حيّة، أختارها بصريّا، فجأة ودون سابق انذار". نحن لسنا هنا أمام معادلة صعبة، بل نحن أمام شخص يرسم نفسه في الآخرين ويروي أحداثا لا يعرفها غيره والشخص المرسوم، ربّما هذا المرسوم لا يعرف أيضا ما الذي دفع بنجاة نحو التفكير في ترجمته على اللوحة وربّما يكتشف جوانب أخرى من ذاته، تحملها في ذاتها نجاة.
العريّ في الفنّ، هو روح الفنّان العارية
قامت التجربة المسرحيّة التي عاشتها نجاة في سنوات الجامعة وبعدها، بتعريتها أمام نفسها، فعرّت كلّ ما حولها من أجساد، بأخذها من حالتها المحدودة العاديّة، نحو اللّاملموس، ليسقط أمامنا المفهوم العاديّ للعريّ، فنشاهد صورا مألوفة، لا توحي بالصدمة ولا بالاستغراب، بل تحمل دفئا يجعل من التعامل مع الجسد تمرينا سهلا وبسيطا. ربّما يحصل ذلك كنتيجة للتجربة الذاتيّة المتمثّلة في اكتشافها لجسدها من خلال المسرح، ولمدى طفوليّة التعامل مع المفاهيم، حيث تعتبر نجاة نفسها طفلة إلى حدّ الآن، تتعلّم الرّسم مع كلّ تجربة، "اكتشفت بفضل المسرح مرونة لم أكن أتخيّل أنّ جسدي يمتلكها... كان لهذا دور كبير في اكتشافي لقدرتي على الرّسم، تحرّرت من عقدة "اللّا"، وأصبحت قادرة على تلوين جدار ذي عشرة متر مربّع دون تردّد".
اعتبر البعض ما تقدّمه نجاة صادما ورفضه البعض الآخر لاختلاف فكريّ جذريّ، لكنّها تشتغل دوما على تقديم فكرة مختلفة عن مبدأ العريّ في الرّسم. هذا التقليد الفنيّ الذي يعود إلى عصور بعيدة وتناقلته كلّ الفنون، هو عند نجاة شكل من أشكال الحقيقة، تبحث من خلاله عن إبراز جوهر الإنسان عند كسر كلّ الحدود المجتمعيّة والمدنيّة بالأساس، بالعودة إلى الطبيعة البشريّة في نشأتها الأولى.
تحصّلت نجاة مؤخّرا على الجائزة الثانية لالمعرض السّنوي للفنّانين التّشكيليّين بتونس، ما يشكّل اعترافا مهمّا بعملها وبالتقدّم الذي أحرزته بعد حصولها على الجائزة الأولى بصفاقس سنة 2005.
"لا أرسم أحلاما أو كوابيس، بل أرسم واقعي" نجاة الذهبي كما فريدا كاهلو، صنعت منهجها في الرسم من خلال ما عايشته وما يعايشه من حولها، وهي كما قال سلفادور دالي "أنا السريالية" تقول "الرّسم هو نجاة ونجاة هي الرّسم"