تحققت كلّ آمال مادام م. بتكوين عائلة قوية ومتماسكة، فكانت حجر الأساس في بنائها، والجندي الأخير الشاهد على انهيارها.
هي مليكة (جليلة بكار)، حامية العرش وسجينته، عاشرت كلّ ما يحتمله فراشها من رجال وأنجبت كلّ ما يحتمله بطنها من أطفال حتى تنقذ نفسها من الوحدة. مشهد سريالي مثير؟ مضحك؟ تراجيدي؟ فيه من العبث الكثير؟ لا؟ يمكن فقط أن يكون محور نصّ مسرحيّ لبريشت أو فيلم روائيّ لبرغمان؟ لا بأس، ففي النّهاية تنطبق كلّ هذه الصفات على الحقيقة، وتتجسّد جميعا في الواقع بشكل مرعب وخفيّ.
بين الحقيقة وقراءة كلّ منّا لها، لا يقع شيء ، سوى ما تحلّى به كلّ منّا من فطنة وحساسيّة وذكاء. لذا، وجب التفكير عشرات المرات قبل تسليم هذه المهمة -قراءة الحقيقة- لأحدهم، حتى لا تتخّذ الأمور منحى صعبا لا رجعة فيه. لعائلة مليكة، حقيقة تخصّها ولا تعني غيرها، دُفنت بالفطرة في قلوب كلّ المنتمين إليها ولم تُقل على مرّ السّنين. في عرض مسرحيّ، قرّرت آسية الجعايبي أن تضغط على زر التفجير، لنشهد خلال ساعة ونصف على تفكّك عائلة طالما زعمت أن لا شيء يفكّ رباطها الوثيق.
لا شكّ أنّ ثنائية الكشف والإخفاء، هي لعبة آسية المفضّلة، ليس فقط مع قصّتها وشخصيّاتها، إنّما مع الجمهور الذي رغم إرادته يصبح شريكا في الرّهان منذ دخوله للقاعة منتظرا أشياء، إلى خروجه منها محمّلا بأشياء أخرى، منها ما يسهل هضمه ومنها ما يصعب فهمه، لكنّ الأكيد أنّ بأكياسه الكثير من الصّدمات، ففي لعبة مدام م. يوجد قانون واحد؛ أن تسلّم نفسك لصوت يجتاح أذنيك من كامل أرجاء القاعة وتحرّر جسدك من قيوده ليستسلم لما سيمليه الصوت عليه.
أخفت مليكة وأبناؤها الحقيقة عن الجميع، وتواطأت آسية في هذه الحيلة خلال مدّة معيّنة من العرض. لكن، رغم تماسك النصّ وبناءه المحكم القائم على المراوغة المتواصلة وعدم النطق بالحقيقة سوى في الأخير، إلّا أنّها اتّخذت في صفّها الإخراج كحليف ليس لغيره أن يكون ندّا للكتابة، فإذا نطق أحدهم بغير الحق، تكذّبه ملامح شخصيّته، الإضاءة والموسيقى وكلّ ما يحيط به. كذا نحن في مدام م. أمام تناقض باهر بين ما تقوله الشخصيات وما ينعكس على وجوهها من نقيض لقولها.
في حفلة عيد الميلاد، تبتسم منى (منى بالحاج زكري) بسذاجة محترقة كمن فقد كلّ شيء ولم يتبقّ له سوى الابتسام حتى يثبت لنفسه أنّه على قيد الحياة ويثبت للآخرين أنّه يستحقّ البقاء بينهم، بنفس الوهم، يبتسم مراد (حمزة ورتتاني)، رجل العائلة المهزوم، هو من يحمل سلطة المال بذهبه وإنفاقه على العائلة، وهو في آخر المطاف طفل قابع تحت أقدام والدته تمشّط شعره وتمسح عن ذهنه كلّ رغبة في التحرّر. على عكس الجميع، لا تتردّد مينا (إيمان غزواني) في الكشف عن أسنانها كي تبتسم بشرّ، هي الوحيدة التي لا تخفي شيئا، أو بالأحرى، هي الوحيدة التي خسرت معركتها مع هشاشتها، فتغلبت هذه الأخيرة عليها لترتسم قوّة وبطشا يقودهما الحقد. أمّا ابتسامة موسى (معين مومني)، ففيها من كلّ ما ذكرناه القليل، مع نظرة العالِم بكلّ شيء كنبيّ، وانحناء ظهر عجوز في الكثير من العمر إلى حدّ اللامبالاة. كلّ هذا، وسط بريق احتفاليّ وهّاج تجلس فيه السيدة مليكة وسط أبناءها كمن حقّق كلّ أمانيه دون استثناء وحصل أخيرا على كلّ شيء.
يبدو كلّ شيء عاديا إلى حدود الآن، فالحب والحنان والكذب والنفاق هما أسس كلّ عائلة تقريبا، وهي أمور يتعايش بها الجميع في سلم وتفاهم مباشرا كان أو ضمنيا، لكن لهذا التعايش أن ينقلب حربا ضروسا إذا حلّ على العائلة زائر ثقيل الظلّ. نتحدّث عن هاجر، الصحفية الاستقصائية التي دفع بها الملل إلى كتابة مقال سيلحق كارثة بعائلة مادام م. وسيكون مصدر انطلاق سلسلة من الأحداث المختلفة بين شجار وتفاهم ونزاع وانسجام. هاجر، علوا على شخصيّتها ودورها المحدّد في مجرى الأحداث، كانت إحدى حيل آسية الركحية في تشريك الجمهور الذي سيخرج من مرحلة الاستهلاك ليكون مشاهدا فاعلا. خلال ساعة ونصف، كان علينا تخيّل هاجر والعيش معها باستحضار جسدها على المسرح وسط بقية الشخصيات. تمّ تقديم شخصيّة هاجر بدقّة مرعبة وبلاغة استثنائية، جعلتنا فيما بعد دون حاجة لسماع أجوبتها لأنّنا نعرف جيّدا كيف تفكّر، كيف يمكن أن تتفاعل وكلّ فرضيات الانفعالات التي من الممكن أن تصدر عنها.
ربّما هي ليست المرّة الأولى التي نرى خلالها حدثا شبيها في تاريخ الفنّ، فقد دخل الغريب على عائلة بازوليني في "تيوريما" ليقلب حياتها رأسا على عقب، يفكّك جمعها المزيّف ويغيّر مجرى حياة كلّ فرد من أفرادها. لكن إذا كان تيرينس ستامب مصدر "ثورة جنسية" حرّرت أفراد العائلة من خلال الجنس فكشفت عقدها، هواجسها وطموحاتها الدفينة، فإنّ هاجر فعلت ذلك لكن من خلال الكذب واللامهنيّة والانحطاط، وإذا دفع تدخّل الغريب في "تيوريما" أب العائلة لتسليم مفاتيح مصنعه للعمال والهروب فيما بعد للتوهان في الصحراء، فإنّ هاجر، قد دفعت مليكة، الأمّ المتغطرسة، لتسليم مفاتيح باب البيت الصغير رمزيا لأبناءها حتى يمضي كلّ بنفسه لما كان يأمله من حياة.
في بناء دراميّ متماسك، شاهدنا لوحات عدّة، اختلفت بين الرقص والشجار والاحتفال والنقاشات المطولة والمونولوجات التي تصل حدّ التداعي الحر. على ركح الفنّ الرابع، صار العرض تجربة جماعية، لا يخفى فيها شيء على الجمهور، حتى تغيير الملابس والديكور، تجربة لعبت فيها الإضاءة دور محرّك الأحداث، وحليف آسية الأساسيّ في لعبة الكشف والإخفاء.
ساعة ونصف، شهدت خلالها قاعة الفن الرابع والجمهور الموجود على ولادة مسرح مختلف، يقوم على الاستفزاز بذكاء والمبالغة بأناقة. تجربة، أكّدت خلالها آسية الجعايبي أنّ المسرح لا يتوقّف عند المسرح، جامعة في ذلك بين فنون عدّة. لا ينفي هذا، أنّ مدام م. تستمدّ إحدى مرجعيّاتها من الفنّ الرابع، فقد شاهدنا بالأمس، إعادة ولادة شخصيات العظيم لوركا في La maison de Bernarda Alba في ثوب جديد، إن كان ذلك في شخصيّة الأم أو البنت الصغرى آديلا.
انتهت مدام م. في اللحظة الحاسمة، تاركة صوت هاجر يرنّ في تلفزاتنا كلّ يوم، ومحوّلة أنظارنا نحو من تجاوزتهم أبواق الفضيحة، ولم نسمع أصواتهم بعد.
Photo de couverture: Khaoula Barnat