السيّد علي بدر الدّين، كان في البال ولم يكن

السيّد علي بدر الدّين، كان في البال ولم يكن

Partager

 

كم من فنّان مغمور في هذا العالم، كتب أو رسم أو لحّن دون أن ترى أعماله النّور؟ لا بدّ أنّهم لم يكونوا مئات فهم آلاف على مرّ العصور والأجيال. ولنا أن نتخيّل أسباب ذلك المتعدّدة، خطأ الزمن الذي وجدوا فيه أو السياق أو خطأ أشخاص آخرين. كم من شاعر من بين هؤلاء؟ الكثيرون أيضا، من بينهم أسماء عرفت في مجالات أخرى وعرفت أعمالهم لكن دون أسمائهم، ولنا في هذا مثل صديقنا السيد علي بدر الدّين (1949- 1980)، إمام شيعيّ أتى من أرياف جنوب لبنان  بالتحديد من بلدة حاروف في مدينة النبطيّة.

 

يعرف هذا الرّجل كلّ من عايشه، أو كلّ من قاسمه الانتماء الدينيّ والسياسيّ في الماضي والحاضر، فلا بدّ أنّه قد ترك اسما وسيرة جديرين بأن يفتخر بهما أترابه، خاصّة بعد وفاته قتلا بالرصاص وقد اكتشفت آثار تعذيب شديد على كامل جسمه. من الأكيد أيضا أنّ من لم ينتم إلى هذه الفرقة الدينيّة وليست له أيّ توجّهات سياسيّة، لن يعرف شيئا عن هذا الرجل أو عن وجوده أصلا. هي مفارقة غريبة، حين نكتشف على سبيل الصدفة أو اقتراح صديق أنّ روحا ما كانت تحوم حول بعض الأغاني التي كنّا نستمع إليها بكلّ شغف، والتي تغمرنا كلماتها، نضيع فيها دون أن نبحث عن صاحبها.

 

من منّا لم يصبه شجن، حزن أو انعتاق في استماعه لفيروز، ومن منّا لم يتوقّف عند كلماتها وألحانها مرارا؟ هناك طبعا من باستطاعته أن يميّز أغان عن أخرى لتكون المفضّلة لديه، وهناك من لا يقدر سوى على التوهان في هذا الزّخم الإبداعي دون أن يلمس بذوقه قطعة محدّدة، لكن من الممكن أن نجزم أن هناك أغنيات تعلو عن الأخريات شأنا كمثل كلّ من "عصفورة الشّجن" و "لملمت ذكرى لقاء الأمس"، لما تحملانه من شعريّة خاصّة واستثنائيّة في صورها وفي إيقاعيها الداخلي والخارجي. قطعتين استوفاهما عاصي الرحباني حقّهما على مستوى التلحين ليجعل منهما أعمالا أبدية القيمة والمعنى.

 

هذان الأغنيتان، هما لصاحبنا السيد علي بدر الدينّ، ولنا أن نتساءل في هذه الحالة عن اسمه غير المرفوق بهما في أيّ مكان حين نبحث عنهما، ولن نستغرب إذا علمنا بأنّه شرط علي بأن لا يذكر اسمه كشاعر وككاتب هذه الأغنيات، فقد كان إمام قريته، قدوتها الدينيّة وأحد قائدي تحرّكات المنظمة التي انتمى إليها، وقبل كلّ ذلك، هو سليل عائلة غارقة في عالمها الدينيّ، ترفض كلّ شاذّ عن تعاليمهم وتصدّه. طلب عليّ علوم الدين طوال حياته، دون أن تتسنّى له الفرصة أن يكشف وجهه التحرّريّ الآخر، ميله إلى الغزل في كتاباته والجانب الرومنسيّ في تصوّره لما حوله ووصفه إيّاه. لم يؤرّخ أحد تقريبا لهذا الجزء من حياة علي بدر الدّين لذلك نعوّل على كلمات "عصفورة الشجن" رائعته كتابة ورائعة فيروز والأخوين الرحباني أداء وتلحينا، لنفهم شعور الاغتراب الذي رافقه خلال حياته، اغتراب بدأ في معايشته منذ سن الخامسة  عشر، أين راح في اكتشاف عبقريّته الشعريّة التي وصلت لمسامع عاصي الرحباني حين بلغ علي سن العشرين.

 

هكذا اذا حدّث عليّ في "عصفورة الشجن":

 

أنا يا عصفورة الشجن ___ مثل عينيك بلا وطنِ

بِي كما بالطفل تسرقه ___ أول الليل يد الوَسَنِ

واغتراب بي وبي فرحٌ ___ كارتحال البحر بالسفن

أنا لا أرضٌ ولا سكنٌ ___ أنا عيناك هما سكني

 

راجع من صوب أغنية ___ يا زمانا ضاع في الزمن

صوتها يبكي فأحمله ___ بين زهر الصمت والوَهَنِ

من حدود الأمس يا حلماً ___ زارني طيراً على غُصُنِ

أيُّ وهمٍ أنت عشْتُ به ___ كُنْتَ في البالِ ولم تَكُنِ

 

 

 

 

 

أمّا في "لملمت لقاء الأمس بالهدب"، فلنا أن نتخيّل تجربة السيّد عليّ الغراميّة، أو لقاءه الممنوع بحبيبة ربّما تواصلت علاقته بها أو ربّما انتهت بسبب نفس الخوف الذي لم يجعل منه شاعرا مشهورا. نحن طبعا لا نملك الكلمات الأصليّة للقصيدة، ولا نعلم أنّها قد كتبت، كما غنّتها فيروز، على لسان امرأة، أم أنّه قد تمّ إدخال بعض التحويرات عليها  من قبل الرحابنة، لكنّها الأكيد أنّها قد أتت من لسان عاشق حقيقيّ لم يجد ملاذا في حبّه سوى الكتابة، فيقول:

 

لملمْتُ ذكرى لقـاءِ الأمس بـالهُدُبِ

ورحْتُ أحضنُهـا فـي الخـافق الـتَّعِبِ

أيـدٍ تُلـوِّحُ مـن غـيبٍ وتغمُرُنــي بـالـدفءِ والضـوء, بـالأقـمـارِ والشُّهـب

مـا للعصـافـيرِ تدنـو ثـم تسألنـي

أهملتِ شعـرَكِ، راحتْ عُقـدةُ القصـب

رفوفها وبريق في تلفتها تثير بي نحوها بعضا من العتب

حـيْرَى أنـا يـا أنـا، والعـيـنُ شـاردةٌ أبكـي، وأضحكُ فـي سِرِّي بــلا سبب

أهـواهُ؟ مَنْ قـال؟ إنـي مــا ابتسمَتُ له دَنـا،

فعـانَقَنـي شـوقٌ إلى الهــرَب

نسـيـتُ مِن يـدِه أن أستـردَّ يـدي

طـال السلامُ وطـالَتْ رفَّةُ الهُدُب

حـيْرَى أنـا يـا أنـا، أنهدّ متعبة خلف الستائر في إعياء مرتقب

أهْوَ الهـوى؟ يـا هنا إن كـان زائرَنـا يـا عطرُ، خـيِّمْ على الشُّبّاك وانسكِب

 

 

 

 

 

السيد علي بدر الدين، يمكن أن نعطي لهذا الاسم أوجها عديدة وأسماء أكثر، لنا أن نتخيّله طفلا بقي في ذلك العمر الذي بدأ خلاله يلتمس آفاقا أخرى للعالم يرسمها قبل النوم، بلا حدود ربّما أو بحدود، لكن الأكيد أنّها أبعد من تلك التي رسمها في مخيّلته أهله، هو شاعر مغمور وعاشق منسيّ، لم يكن من بين المحظوظين في العالم، ولولا حاجته للمال، لما علمنا شيئا عن هذه القصائد. يصعب في النّهاية تخيّل حياته لو عاش ومات شاعرا، ولو عرفه النّاس بما يعمل في سرّه، لكن لنا أن نرسم له نجمة في سماء الشعر ونذكره في صوت فيروز كلّما استمعنا إليها.